رواية "مرايا" هي الإصدرا الثاني للروائي والقاص مصطفى شعبان الذي تزامن مع إصداره مجموعته القصصية "وردة الشاعر"، الأديب المغربي المقيم في باريس نشر روايته الأولى "أمواج الروح" سنة 1998 وقد لقيت أعماله نجاحا واستحسانا من لدن العديد من النقاد والباحثين.
تقف الرواية عند محطات اجتماعية عدة، من الزواج المختلط إلى نزاع الهويات مرورا بتقاطع الثقافات، وكلها تمتح من المحرك الرئيس لهذه التفاعلات، ألا وهي الهجرة التي تشكل التيمة الأساس لعموم النص.
لعل الكثافة الإغترابية التي تطبع النص هي الباعث الأساس لجعل "مريا" نصا موازيا لكل ما يضطلع به السردُ الذي يواجهنا، إذ العتبة مبتدأ يضيع خبره في ثنايا النص والذي يولّد البحثُ عنه حيرةً تسكن القارئ كلما جال في فجاج الصفحات. هي مرايا لأنها مرآة واحدة لا يعتورها الصدأ رغم عمليات الكشط التي تركت بصمات العديد من الشخصيات التي تسكن كيانا واحدا حتى استحالت المرآة-الأم مرايا متعددة. ووقوفا عند قول جيرار جينت:"علينا أن نحذر العتبات"1 نخوض غمار النص حتى نتبين مدى تلاؤم النص والنص الموازي.
مطلع الرواية يجعلنا نتحسس في ذاكرتنا أماكن عدة كان لها حضور صارخ في الرواية المهجرية: حديقة لكسمبورغ، شارع سان ميشال..إنها الأماكن نفسها لكن بعدسة جديدة، عدسة تجرد الأحيزة من جمودها، تتفاعل معها، تحملها وزرها ساعة الانتكاسة:" يبصق على مكان اللقاء" ص10. " فالمكان في حركة أخذ وعطاء مع الشخصيات الروائية وأحداثها يتوجه بوجهتها، ويرتبط بحركتها. ويقدم بما يدفع بأحداثها إلى الأمام"2 . ولذالك تطورَ السردُ في صيرورته للبحث عن الهوية التي ضاعت حينا والتي يُخشى على ضياعها حينا آخر، فالشبح الذي يتهددها ليس إلا المسرح الذي أُرغمتْ على العيش فيه وهو ضفة الشمال عموما." تذوب الخصوصية. تتلاشى في ضفة الغالب مع الزمن"ص39. أماكن- كما استهوت الجيل الراهن- استهوت الجيل الأول الذي صنع الهجرة، بهذا تثبت فاعلية سُنّة اتباع المغلوب للغالب، فهذا السي العياشي يحكي عن أيامه الأولى :"الحي اللاتيني، شارع سان ميشال، وشارع سان جيرمان، أماكن استهوتني في البداية" ص118. تتقوى العلاقة- التي تسكن الإنسانَ – بالمكان في جغرافيا المهجر، ثم تزداد هذه العلاقة حميمية عندما تلامس ربوع النشأة والصبا. إذ تكشف التفاصيل المحكية التي لا تتأتّى إلا لمن خبر المكان شبرا شبرا، ولا تنصاع إلا لمن عايش احداثها لحظة بلحظة. "خلف باب السوق توقفت عربات "الكارو" المجرورة بالبغال والحمير تنتظر المتسوقين. سائقون يرتبون الأمتعة.....بغل حرون لم ينقد للطريق، ولا يريد مفارقة المكان......صاحب العربة موزع بين الإغراء والسب"ص62، إنها عدسة مصور لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. ثم تنتقل بنا هذه العدسة إلى عقر الدار لتضفي على المادة المحكية شمولية تجعلها تتسلل إلى وجدان القارئ " كانت جلسات المنزل والزيارات العائلية بابا لمريلين، يقربها....يغيب الحاج حمادي عن الجلسات.....ينزوي الحاج في ركن من البهو وسط عباءته الصيفية الفضفاضة" ص65. على هذه الشاكلة نتعرف على الجنس البشري الذي يصنع الاحداث والذي تعكسه مرايا النص، إذ الحيز المكاني هو مرآة ناصعة للإنسان الذي أنتجتْهُ، وهكذا فأنتَ " إذا وصفتَ البيت فقد وصفت الإنسان"3 .
وعند استرسالنا في قراءة المتن، نلفي أنفسنا أمام سؤال الحبكة الروائية، أو التحليل النفسي الروائي على وجه الخصوص. إذ تتقمص مريلين شخصية نجاة في عملية لا يمكن عدها إلا طفرةٌ تتم على أدق المستويات. فنحن نفاجأ في أول صفحة من الفقرة الثانية-العودة وعودة العودة- بعبارة تلج بنا منطقة هلامية" هو صالح ابني قد وصل يوم السبت. تزوج فتاة أمريكية تعيش في فرنسا. أسلمت وأسميناها نجاة" ص45، نُسلّم بهذه الحقيقة ونمضي قُدُماً نمخر عباب المتن نستكشف الدوافع التي أفرزت هذا التحول، لكننا مانفتأ حتى نصطدم بما لم يكن في الحسبان، إذ نكتشف أن اسمها صار يتأرجح بين مريلين ونجاة" مكثت أستحضر ذكرياتها مسهبا إلى أن رمتني مريلين بنظرة متسائلة"ص50، إنه مازال يحتفظ باسمها الحقيقي في دخيلة نفسه، في اللاشعور، أي الذاكرة الأولى. وهذا ما أكده مارت روبير:" اللاشعور والشعور، الذاكرة الأولى والراهن" 4 ثم نجده يغالب نفسه في الحديث إليها ويناديها باسمها الذي قرره الشعور/الراهن " هذا جناح الملابس يا نجاتي"ص55 ثم يعود لينعطف ويحكي عنها ليفكر فيها باسمها " ابتهجت مريلين لفرجة السوق الذي بقيت في مسرحه"ص58. إنها الذاكرة الأولى التي تعانق اللاشعور، تأبى أن تتخلى عن سطوتها. وهو ما قرره الراوي نفسه قبل أن يكاشفنا بهذا التأرجح بين الشعور واللاشعور، بين نجاة ومريلين" إن الذاكرة لا تستجيب بسرعة للتغير، فهي تحافظ على عذرية الأشياء" ص50.
مهما تكن الزاوية التي ارتأيناها للنظر من خلالها إلى هذا المتن، فإننا لا نستطيع أن ننأى بأنفسنا عن المثلث الذي يقيدنا به النص والذي تناسل-أصلا- عن العتبة، ألا وهو مثلث"الظمأ" و"العودة وعودة العودة" و"القابلة". هذه الأثافي الثلاثة هي التي تنضج عملية السرد دون أن تسْلُب شيئا من حضور وهيمنة العنوان الرئيس. فمرايا عتبة حبلى بنوايا دلالية تتجلى باستيقاظ العديد من الكيانات في نفس صالح، حتى إنه ليتبارى النقيضان. انتكَري يبرر كل دوافع الإندماج والتأقلم، بل أحيانا الذوبان الذي يصفه بأنه " تحول طبيعي لحتمية لابد منها، قد تمنعه الآن وتوقفه، ويصير ممكنا مع الأجيال القادمة"ص198. في حين يطل حمدون ليلدغ النفس بشوكة الإنتماء وذكرى الجذور" مريلين زائرة عائدة. أي تربة تشدك انت الآن؟ " ص105. تهيم الشخصية الجوهرية بين المطرقة والسندان فتبدأ في عملية - تحت وطأة الحيرة- شبيهة بالتحلل " يتعمق السي أنتكَري. تتسع له رقعة السكن مع الوقت أكثر فأكثر يشعر حمدون بالزحام والضيق" ص127.
ثم أخيرا نجد أنفسنا أمام الهلامية التي وعدنا بها العنوان، لنجد المرآة التي وجد صالح فيها نفسه- كخيار أخير أُجبر عليه- وهي مرآة تمسك بالعصا من الوسط ليعيش النقيضان في الكينونة الممزقة " يتعايش القديم والجديد في جوف صالح: شرق وغرب، ويسير الزمن" ص129
لقد كانت رواية "مرايا" في سردها الرصين تبعث على القلق تجاه الأجيال القادمة التي لن تصمد طويلا في مقاومتها للثقافة الدخيلة، بل ما تفتأ حتى تنصاع لها حتى في أدنى مستوياتها، إذ يعرض النص لنا أنموذجا لهذا الإنشطار" عاد ماريو/مرزوق إلى المنزل" ص154. لقد حاول مرزوق في البداية – محاولات خجولة- أن يحتفظ باسمه، إلا أن الواقع أثبت أن تأثير الوسط الإجتماعي أعتى من تأثير الوسط الأسري. تقَبَّل مرزوق الإشتقاق القلق الذي انتُزع من اسمه – من قِبَل زملائه- وأسكنه فسيح كيانه، فها هي ذي أمه تناديه"- تعال يا مرزوق؟! مرزوق لم يجب دعوة أمه" ص154.
إنه الهاجس الذي يسيطر على أفكار النص في العديد من جوانبه. هاجس قلق مرتبك يقف مشدوها مكتوف الأيدي أمام المصير الذي ينتظر الأجيال المتناسلة" النفحة التي تغذي رئتيك، تمططها. رائحة قد لا تحرك خياشيم النسل. إن الثقافة تكتسب، وكل مكتسب حين يسكن الجذر، يشد المرء للدفاع عنه مع الزمن" ص104. بهذا يكون النص لبِنة جديدة في بنيان الرواية المهجرية المغربية، إذ من خلال استنطاق الأجيال الأولى التي ذاقت مرارة الإغتراب وتجرعت توابعه، رَسَمَ التجليات التي تومض بما ستؤول إليه الأجيال القادمة في دروب الهجرة والإغتراب.